«ترامب» ومستقبل السياسة الخارجية الأمريكية: هل يغير الرئيس الجديد مسار واشنطن؟

الاثنين 14 نوفمبر 2016 02:11 ص

نظرًا للأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، نرى أنّه قد يكون من المفيد أن نلخص بعض التنبؤات التي توقعناها ديسمبر/ كانون الأول الماضي ونحاول أن نظهر كيف تماشى معها انتخاب «ترامب». نحن بالطبع لم نتنبأ بانتخاب «ترامب». فالسياسة والانتخابات ليست مستقرة بالقدر الذي يسمح بالتنبؤ. وفشل غالبية الاستطلاعات حول نتائج الانتخابات هي مثال على ذلك. ومع ذلك، فإنّ الاتجاهات الجيوسياسية الأوسع قابلة للتنبؤ، وهذا يضع انتخاب «ترامب» في سياق جيوسياسي مستخلص من توقعاتنا. عمومًا، يخلص هذا التقرير إلى أنّ انتخاب «ترامب» لا يعارض توقعاتنا لما سيكون عليه مكان الولايات المتحدة بالنسبة للعالم خلال الـ 15 عامًا القادمة، بل إنّ ذلك يؤكد في بعض الحالات أنّ الأمور تسير كما توقعنا لها.

لقد تنبأنا أنّ الولايات المتحدة تتجه لاسترتيجية توازن القوى لصالح الاعتماد على القوة الإقليمية والحلفاء على حساب التدخل المباشر في الأحداث.

ولهذا التوقع ارتباط وثيق بعلاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط وروسيا والصين.

و«ترامب»، مثل كل الرؤساء الأمريكيين، يأتي مع خطط كبيرة، لكنّ ما يمكن تحقيقه يتحدد بالقيود الخارجة عن إرادته.

مقدمة

سيكون «دونالد ترامب» رئيسًا لم يسبق له مثيل في كثير من النواحي. فلم يخدم أبدًا في الوظائف العامة، ولم يخدم حتى في الجيش الأمريكي. وسيصل إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني ولديه من الخبرة أقل بكثير من أي رئيس سابق في تاريخ الولايات المتحدة. كما اكتسب سمعةً أيضًا كرجل متقلب يقول ما يفكر فيه ويتخذ مواقف مثيرة للجدل، حتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وعلى النقيض من كل ذلك، لا نعتقد أنّ سياسات «ترامب» ستحدد عن طريق أقواله السابقة أو سياساته المعلنة، ولكن سيؤثر في ذلك الظروف والأحداث الخارجة عن سيطرته، مثل جميع من سبقوه.

ولدينا العديد من التوقعات المتعلقة بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة حتى عام 2040، ولكن سقط العديد منها بفعل تطور واحد رئيسي قد بدأ يعمل بالفعل. فعهد تدخل الولايات المتحدة بشكل موسع في صراعات على الأرض في أوراسيا قد ولى. وستستخدم الولايات المتحدة استراتيجية توازن القوى لإدارة الملف الأوروآسيوي الذي سيشهد فوضى على مدى العقود القادمة. وسيكون ذلك فعليًا في ثلاثة مناطق استراتيجية: الشرق الأوسط وروسيا والصين.

الشرق الأوسط

تؤكد توقعاتنا على أنه: «في الشرق الأوسط، توجد أربع قوى كبرى: تركيا وإيران والسعودية و(إسرائيل). يمكنهم التعاون لهزيمة عدو مثل (الدولة الإسلامية)، أو خلق نظام من التنافس والتنازع فيما بينهم. ومع حروب الولايات المتحدة ضد الجهاديين، أدركت واشنطن ثمن سياسة التدخل المباشر في بيئة غير حاسمة لأمنها. ويمثل التوازن الإقليمي بين هذه القوى الأربعة ما سوف تشكله السياسة الخارجية الأمريكية في الـ 25 عامًا القادمة».

وبعد 15 عامًا من الحروب في الشرق الأوسط، تعلمت الولايات المتحدة أنّ هزيمة عدو في معركة لا يساوي القضاء على مشكلة. فقد أظهرت الولايات المتحدة قدرتها على هزيمة طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، لكنّها أظهرت في نفس الوقت عدم قدرتها على منع صعود طالبان مرة أخرى أو ظهور من هو أسوأ من «صدام». والاحتلال المستمر يتطلب إعادة التجنيد في الولايات المتحدة، وهو ما لن يوافق عليه الشعب.

وقد استفاد «ترامب» من ظهوره حاسمًا بشأن السياسة الخارجية الأمريكية، وخاصةً فيما يتعلق بـ «االدولة الإسلامية». لكنّ «ترامب» لم يقترح إرسال مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى صحراء سوريا لاستعادة الرقة من «الدولة الإسلامية». على العكس، فإن «ترامب» يسعى لتدمير «الدولة الإسلامية» بأقل تكلفة ومن ثمَّ إخراج الولايات المتحدة من الأمر للتركيز على الشؤون الداخلية. وحتى وإن رغب «ترامب» في إطلاق تدخل عسكري شامل ضد «االدولة الإسلامية»، لا يمتلك الجيش الأمريكي الجنود والعمق العملياتي المطلوب للدخول في صراع جديد. وإذا لم تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من الجنود، ستكون بحاجة لمشاركة مقاتلين محليين

ولا يسمح وضع الجيش الأمريكي بنشر أعداد كبيرة من الجنود في الصحراء السورية لهزيمة «الدولة الإسلامية»، وكذلك فإنّ الحكومة الأمريكية ليست في وضع يبرر مثل ذلك الانتشار أمام الشعب. بدلًا من ذلك، حاولت الولايات المتحدة إقامة علاقات مع الفصائل المتنوعة لتشكيل تحالف على الأرض يستطيع قتال «الدولة الإسلامية» بدعم محدود من الولايات المتحدة. وهذا يعني إقامة علاقات مع غالبية القوى الإقليمية الكبرى، بما في ذلك إيران والسعودية، وكلاهما شهدا هجومًا من «ترامب» خلال حملته الانتخابية. ربما «ترامب» غير معجب بالاتفاق النووي مع إيران، لكنّ إيران أصبحت شريكا مهمًا في القتال ضد «الدولة الإسلامية» في المنطقة. وتمثل تركيا أيضًا لاعبًا محوريًا من هذا المنظور، بينما تعدّ السعودية و(إسرائيل) أقل أهمية كونهما أقل قدرة على تشكيل ساحة المعركة.

روسيا

تؤكد توقعاتنا على: «باختصار، فإنّ الاستراتيجية المثلى للولايات المتحدة هي مواجهة روسيا بخط مقاومة لا يجعلها تتداخل بشكل مباشر معها. ولدى دول البلطيق وبولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا مصلحة في منع الروس من اجتياحها، وهي مصلحة تتفوق على مصلحة الولايات المتحدة من منع هذا الاجتياح. ... لذلك، ترى الولايات المتحدة أنّ دعم هذه الدول بالإمدادات والتدريب وبعض التواجد مثل القوة الجوية وبعض القوات الأرضية المحدودة، سيكون فعالًا. ستكون تلك هي استراتيجية الولايات المتحدة من الآن وحتى عام 2040، وليس فقط مع روسيا، ولكن في كل علاقاتها الدبلوماسية. من الممكن أن يبدو ذلك في صورة انعزالية بشكل ما، لكنّه في الحقيقة انخراط بحكمة».

يقال الكثير حول علاقة «ترامب» بالرئيس الروسي «فلاديمير بوتين». وهذا ليس مكان التكهن بشأن ما إذا كان الثنائي سيسيرون للحديث معًا حول السياسة على ضفاف نهر الفولغا. فالرئيس الأمريكي «باراك أوباما» كانت له علاقة مثيرة للجدل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، لكنّ ذلك لم يغير من المسار الجامع للعلاقة بين الولايات المتحدة و(إسرائيل). وحتى إذا تمتع «ترامب» و«بوتين» بنوع ما من العلاقة، فمن منظور جيوسياسي ستظل مواقف الولايات المتحدة وروسيا مؤمنة.

وتعاني روسيا من أزمة بسبب انهيار أسعار النفط عام 2015. فلم تكن روسيا مستعدة لانهيار سعر النفط لأقل من 40 دولارا للبرميل، حتى أسعار 60 دولارا للبرميل كانت مؤذية للروس بناءً على صياغة ميزانيتهم قبل انهيار الأسعار. نتيجة لذلك، تعرض الاقتصاد الروسي للضرر. وقد أصدر البنك الدولي تقريرًا إيجابيًا هذا الأسبوع، قال فيه أنّ الاقتصاد الروسي سينكمش بمقدار 0.6% هذا العام، في تحسن ملحوظ عن التوقعات السابقة بانكماش بلغ 1.2%. ويشير مشروع موازنة الحكومة الروسية لعام 2017 أنّ روسيا ستنفق جميع ما لديها من احتياطيات نقد أجنبي بحلول نهاية العام المقبل وستقلص من الإنفاق في عديد البرامج الاجتماعية بقدر 10% في جميع المجالات. وقد سببت هذه التخفيضات بالفعل في عدد من التظاهرات المحدودة في مناطق متفرقة عبر البلاد.

وبالإضافة لكونها عاجزة بسبب اقتصادها، فالموقع الاستراتيجي لروسيا ضعيف. وكانت روسيا قد تدخلت ضد ثورة شعبية في أوكرانيا نتج عنها حكومة صديقة للغرب في كييف. وهي منطقة عزل شديدة الأهمية لروسيا، وكانت روسيا تعتبرها داخل منطقة نفوذها، وتخطي الغرب لهذا المجال يمثل تهديدًا لها.

والمشكلة أنّ روسيًا حقًا لا تملك فعل شيء حيال ذلك. تملك روسيا الجيش الأقوى في المنطقة، وقد تحسنت جودة قواتها بشكل ملحوظ منذ الحرب الروسية الجورجية عام 2008. ومع ذلك، فهي لا تملك نوعية القوة التي تستطيع هزيمة أو غزو أوكرانيا، كما أنّها لا ترغب في أن تعاني رد الفعل الدولي الذي سينتج عن ذلك التحرك. وتهتم روسيا حاليًا بتجميد الصراح حيث يحترم الغرب حدودها. وفي التدخل الروسي في سوريا تحاول روسيا إلهاء السكان المحليين عن الصعوبات الاقتصادية أولًا، وثانيًا تريد وضع أسس للتعاون بينها وبين الولايات المتحدة.

أثارت انتقادات «ترامب» لحلفائها في أوروبا وخاصةً في حلف الناتو كثيرًا من الانتباه. وقال «ترامب» مرارًا أنّ الولايات المتحدة لا ينبغي أن تدعم الدفاع عن الدول الأوروبية، حيث لا يوفي أغلبهم بالحد الأدنى لدفاع حلف الناتو بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذه النقطة، تشارك «ترامب» نفس الرأي مع «أوباما»، الذي دفع في الأشهر الأخيرة تجاه نفس الشيء. لن تترك الولايات المتحدة روسيا تتمدد، وهي ترى روسيا ضعيفة، وتهدف لإبقائها على هذا الحال. ولكن لا ترغب الولايات المتحدة أيضًا في أن تكون المسؤولة الوحيدة عن تحجيم طموحات روسيا. وهذا يعني وجوب ضمان قدرة دول أوروبا الشرقية على الدفاع عن أنفسها ومقاومة الاندفاع الروسي.

ولا يغير انتخاب «ترامب» حقيقة ضعف الاقتصاد الروسي أو الحاجة الاستراتيجية للولايات المتحدة لضمان الإبقاء على روسيا في وضعها الراهن. ربما ستظهر العلاقة أكثر ودًا على السطح، وربما يتعاون الطرفان بشكل أكبر في سوريا، لكن «ترامب» لا يستطيع التخلي عن حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا الشرقية، كما لا يستطيع «بوتين» غزو دول أوروبا الشرقية بقوات جيشه المحدودة.

الصين

تؤكد توقعاتنا على أن «الصين ستعاني من تراجع في الاقتصاد ومحاولة توحيد البلاد، وسيؤدي هذا إلى إضعاف الصين ونشوء فراغ في شرق آسيا. سيتم ملئ هذا الفراغ من قبل اليابان. ... ولا تزال اليابان دولة ذات اقتصاد هائل وقوة عسكرية كبيرة، مع سابع أكبر ميزانية للدفاع في العالم بإجمالي فقط 1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يمكن توسيعه بسهولة. وحافظت الدولة على قدراتها العسكرية الكبيرة لسنوات. ... ونتنبأ لليابان بأن تصبح القوة العظمى في شرق آسيا، وإن كانت قوة عظمى مترددة بشكل غير طبيعي».

ومثل روسيا، فإنّ الصين تواجه مشاكل داخلية خطيرة. وبدأ اقتصادها بالاهتزاز في السنوات القليلة الأخيرة، وأصبح العالم يفهم الآن حقيقة أنّ دور الصين كمحرك الاقتصاد العالمي وصل للنهاية. وردًا على ذلك، برز الرئيس «شي جين بينغ» كديكتاتور، وقد أنفق معظم طاقته هذا العام على تثبيت أركان دوره قبل المؤتمر الـ 19 للحزب العام القادم. وتشير توقعاتنا طويلة المدى أن مشاكل الاقتصاد الصيني تعدّ نذيرًا بأن يصبح مستقبل الصين إمّا دولة أكثر انعزالًا بكثير تقبع تحت حكم حكومة استبدادية في بكين، أو دولة تعاني من شروخ عظيمة في مختلف المناطق. في الوقت نفسه، ستظهر الصين قوية في بحري الصين الجنوبي والشرقي لإلهاء شعبها الداخلي عن الألم الاقتصادي المحتوم.

لم يكن «ترامب» قاسيًا فقط على حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، فقد خصّ اليابان بالذكر أيضًا كحليف للولايات المتحدة يحتاج للعب دور أكبر في حماية مصالحه بدلًا من الاعتماد على الولايات المتحدة. وقد أصدر «ترامب» تصريحات تقترح امتلاك اليابان لأسلحة نووية، لكنّ ذلك يحجب النقطة الأكثر أهمية، وهي الانسجام في الرأي بين «أوباما» و«ترامب» في إصرارهما في أن تلبي البلاد الحاجات الأمنية الخاصة بها.

وعلى المدى الطويل، لا نعتقد أنّ الصين ستحقق هيمنة إقليمية، ولكن على المدى القصير، تصبح الصين عدوانية على نحو متزايد، وتختبر كوريا الشمالية معدات وصواريخ نووية على نحو متسارع. ولا ترغب اليابان في التسلح، لكنّ هذه التطورات تدفع البلاد لإنفاق المزيد من الأموال على الجيش بغض النظر عن تصريحات «ترامب». وقد تم تمرير إصلاحات دستورية هذا العام والتي أزالت بعضًا من القيود المفروضة على القوات اليابانية وسمحت لليابان بالدفاع ليس فقط عن نفسها، ولكن عن حلفائها ومصالحها. ومع تمرير تلك الإصلاحات، على الرغم من رفضها من قبل قطاعات عريضة من الشعب الياباني، يبدو أنّ اليابان تتجهز للعب دور أكبر في قيادة المنطقة.

لذلك، يبدو أنّ توقعاتنا تسير في المسار الصحيح. يعاني اقتصاد الصين، و«شي» يتحول إلى ديكتاتور. تدفع الولايات المتحدة اليابان للعب دور أكثر نشاطًا في إدارة أمن المنطقة. والآن يأتي رئيس جديد للولايات المتحدة يصر على لعب اليابان لدور أكبر. واللبنات الأساسية لتوقعاتنا بدأت تظهر بوضوح، بمحاولة اليابان المترددة لبس عباءة القوة الإقليمية ببطء ورغبة الولايات المتحدة في أن تساعد اليابان في إحداث توازن قوى في المنطقة. وقدوم «ترامب» يعطي مؤشرًا على ذلك.

أمّا بالنسبة لاحتمال اندلاع حرب تجارية مع الصين، فقد تبادلت الولايات المتحدة والصين الاتهامات بالفعل بعديد الانتهاكات في منظمة التجارة العالمية، وقد عاقب كل منهم الآخر برفع التعريفة الجمركية على بضائع الآخر في الأشهر الأخيرة. وتحدث «ترامب» عن لعبة تجارية كبيرة مع الصين، لكنّ الكونغرس في نهاية المطاف، هو من لديه السلطة الدستورية لفرض الضرائب والتعريفات الجمركية، على الرغم من أنّه قد مرر قوانين تمنح للرئيس السلطة لفرض رسوم جمركية في بعض الحالات. وربما يتطلب الحد من هذه السلطات من «ترامب» تشريعا جديدا، لكنّ لن يدعم الكثير من الجمهوريين في الكونغرس زيادة الحواجز التجارية العقابية. وهنا سوف تشكل السياسات الداخلية قدرة «ترامب» على التصرف بشكل كبير.

خاتمة

وعد «أوباما» بإنهاء الحروب الأمريكية وإغلاق غوانتانامو وإعادة بناء هيكل تحالفات الولايات المتحدة والتواصل مع العالم الإسلامي. ويجب أن تعكس نسبة نجاح «أوباما» في تحقيق وعوده واقع ما سيكون «ترامب» قادرًا على تحقيقه. وعندما نعكس ما يمكن أن تحققه إدارة «ترامب» وقياس ذلك بتوقعاتنا إلى عام 2040، نرى أنّ توقعاتنا قد بدأت بالتشكل. لم نكن أبدًا لنتوقع فوز«ترامب»، لكنّ القوى التي أدت لانتخابه والقيود التي ستشكل سلوك إدارته، جميعها في توقعاتنا وتبقى في مسارها الصحيح.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

ترامب فوز ترامب الانتخابات الأمريكية السياسة الخارجية الأمريكية